في سيمياء الوداع في الشعر

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في سيمياء الوداع في الشعر, اليوم الجمعة 10 مايو 2024 02:24 صباحاً

في سيمياء الوداع في الشعر

نشر بوساطة طامي الشمراني في الرياض يوم 10 - 05 - 2024

2074471
لعل من أبرز المشاعر الشعرية التي تمثل ذروة اللحظات الإنسانية عاطفة وصدقاً هي تلك اللحظات التي تتوقف فيها تلك النفس عند مشهد الوداع وما يعتريه من ضعف إنساني تجاه مفارقة من نحب، أو من يُشكّل حضوره في حياتنا حضوراً للحياة ذاتها، ويعدّ غيابه بأي شكل من أشكال الغياب انكساراً لقلب المُودِّع وألماً فظيعاً يسبّب جراحاً في الروح يصعب اندمالها. والوداع من اللحظات الأثيرة التي استغلت في مختلف الفنون البصرية والدرامية والشعرية، مما يضيق المجال عن سرد ملامحها وتشكلاتها، فنقتصر في حديثنا عن ملامح هذا الوداع وشعريته في الشعر العربي.
يمثل الوداع في الشعر العربي، قديمه وحديثه، لحظة انقطاع بين لحظتين متناقضتين؛ لحظة اللقاء والاجتماع والوصل، ولحظة انقطاع للمودة وتشتت للمشاعر تفضي إليها حالة التفرّق والتشتت بين المحبين، إن اللحظة الدرامية في مشهد الوداع تكمن في تمني استمرار حالة وصل، وتمني ألا تأتي الحالة التالية لها وهي الانقطاع الذي تنفطر له القلوب، ولكن الحالة القارة في هذا الشعر، وحركة الزمن تفضي بنا إلى تغيير الحاضر المعتاد بوجود حالة الوداع رغبنا بذلك أم لم نرغب، فمنطق الحياة مفض إلى ذلك، وهذا ما يجعل لحظة الفراق هي من أكثر لحظات الشعر حساسية، وأكثرها تأثيراً في النفس، وأبلغها حضوراً في تصوير حالة الموات التي تعتري الشاعر، بل قد تكون السبب الرئيس لذلك، وهذا ما يفسر لنا قول المتنبي: (ولولا مفارقة الأحباب ما وجدت/ لها المنايا إلى أرواحنا سبلا).
فالفراق من وجه نظر الشاعر هو المسبب الرئيس للموت على سبيل المجاز والحقيقة، وتشهد بذلك قصص الأحبة والعشاق الكثيرة التي ترويها كتب الأدب العربي والعالمي.
وثنائية الحضور والغياب هي من أكثر الثنائيات تردّداً عند الشعراء، وهي ثنائية تكمن جماليتها بارتباطها الجمالي بثنائية الموت/ الحياة، وهي اللحظة التي صاغها جميل بثينة بقوله الشهير:
(يموت الهوى منّي إذا ما لقيتها/ ويحيا إذا ودعتها فيعود).
وطرافة الصورة في ارتباط ثنائية الموت والحياة ( يموت/ يحيا) بالمصدر( الهوى) فاللقاء يميت الهوى، والوداع هو اللحظة المُؤججة للمشاعر، فخوف خسران الحبيب هي بؤرة تأجيج المشاعر، واستعادة حيويتها، من هنا تتفوق دلالياً لحظة الوداع على لحظة اللقاء، ولعل مما يؤكد عمق هذه الدلالة أنها شكّلت المرتكز الدلالي لمشاهد رحلة الظعائن في الشعر العربي، إذ يمسي فيها الوداع معادلاً للموت، وهذا ما نلحظه في الأبيات المشهورة التي ترصد ملامح تلك الرحلة:
لما أناخوا قُبيل الصبح عيسهم/ وحمّلوها وسارت في الدجى الإبل
يا حادي العيس عرّج كي أودّعهم/ يا حادي العيس في ترحالك الأجل
فالارتحال هنا هو ارتحال الأحبة وارتحال عن المكان، يرتبط بحقل دلالي غني يشمل مرادفات الوداع ومتعلقاته من رحيل وشوق ودموع وألم، مما يجعل من هذا المعجم ثرياً بالدلالة مفعماً بالمشاعر الإنسانية النبيلة.
لا شك أن لحظة الوداع هي من أشد اللحظات الإنسانية اختباراً للمشاعر البشرية، ربما لأن الشعراء عموماً أدركوا أنها اللحظة الحقيقية التي تبقى، فمهما طال اللقاء فنتيجة الحتمية الوداع، ومهما طالت الحياة فنتيجتها البدهية هي الموت ومغادرة الأحبة، ومن هنا فإن انشغال الشعراء بهذه اللحظة قد ينطوي في جملة ما ينطويه من دلالات مضمرة، على رثاء للحياة البشرية، وشعور ترجيدي بتحولها، وربما في هذا ما يبرر حضور هذه اللحظة في كثير من القصائد المغناة بالفصيحة والعامية على حد سواء، وهنا تحضرني القصيدة التي غناها الراحل طلال مداح، التي ندعو القارئ إلى تأمل جماليتها، ونختم بها كلامنا عن الوداع، ومطلعها: (وأخيراً ليس لي غير الوداع/ همسة حرى على جمر التياع).
د. طامي الشمراني




إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق